تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 391 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 391

391 : تفسير الصفحة رقم 391 من القرآن الكريم

** وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىَ مُوسَى الأمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ الشّاهِدِينَ * وَلَكِنّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِيَ أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَـَكِن رّحْمَةً مّن رّبّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مّآ أَتَاهُم مّن نّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ * وَلَوْلآ أَن تُصِيبَهُم مّصِيبَةٌ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبّنَا لَوْلآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
يقول تعالى منبهاً على برهان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بالغيوب الماضية خبراً كأن سامعه شاهد وراء لما تقدم, وهو رجل أمي لا يقرأ شيئاً من الكتب, نشأ بين قوم لا يعرفون شيئاً من ذلك, كما أنه لما أخبره عن مريم وما كان من أمرها قال تعالى: {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون} الاَية, أي وما كنت حاضراً لذلك, ولكن الله أوحاه إليك, وهكذا لما أخبره عن نوح وقومه, وما كان من إنجاء الله له وإغراق قومه, ثم قال تعالى: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين} الاَية, وقال في آخر السورة {ذلك من أنباء القرى نقصه عليك} وقال بعد ذكر قصة يوسف {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون} الاَية, وقال في سورة طه: {كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق} الاَية, وقال ههنا بعد ما أخبر عن قصة موسى من أولها إلى آخرها, وكيف كان ابتداء إيحاء الله إليه وتكليمه له {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر} يعني ما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي الذي كلم الله موسى من الشجرة التي هي شرقية على شاطىء الوادي {وما كنت من الشاهدين} لذلك ولكن الله سبحانه وتعالى أوحى إليك ذلك, ليكون حجة وبرهاناً على قرون قد تطاول عهدها, ونسوا حجج الله عليهم وما أوحاه إلى الأنبياء المتقدمين.
وقوله تعالى: {وما كنت ثاوياً في أهل مدين تتلو عليهم آياتن} أي وما كنت مقيماً في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا حين أخبرت عن نبيها شعيب وما قال لقومه وما ردوا عليه {ولكنا كنا مرسلين} أي ولكن نحن أوحينا إليك ذلك وأرسلناك إلى الناس رسولاً {وما كنت بجانب الطور إذ نادين} قال أبو عبد الرحمن النسائي في التفسير من سننه: أخبرنا علي بن حجر, أخبرناعيسى بن يونس عن حمزة الزيات عن الأعمش, عن علي بن مدرك عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه {وما كنت بجانب الطور إذ نادين} قال: نودوا أن: يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني, وأجبتكم قبل أن تدعوني, وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث جماعة عن حمزة وهو ابن حبيب الزيات, عن الأعمش. ورواه ابن جرير من حديث وكيع ويحيى بن عيسى عن الأعمش, عن علي بن مدرك عن أبي زرعة وهو ابن عمرو بن جرير أنه قال ذلك من كلامه, والله أعلم.
وقال مقاتل بن حيان {وما كنت بجانب الطور إذ نادين} أمتك في أصلاب آبائهم أن يؤمنوا بك إذا بعثت. وقال قتادة {وما كنت بجانب الطور إذ نادين} موسى وهذا ـ والله أعلم ـ أشبه بقوله تعالى: {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر} ثم أخبر ههنا بصيغة أخرى أخص من ذلك وهو النداء, كما قال تعالى: {وإذ نادى ربك موسى} وقال تعالى: {إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى} وقال تعالى: {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجي}.
وقوله تعالى: {ولكن رحمة من ربك} أي ما كنت مشاهداً لشيء من ذلك, ولكن الله تعالى أوحاه إليك وأخبرك به رحمة منه بك وبالعباد وبإرسالك إليهم {لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون} أي لعلهم يهتدون بما جئتهم به من الله عز وجل {ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسول} الاَية, أي وأرسلناك إليهم لتقيم عليهم الحجة, ولينقطع عذرهم إذا جاءهم عذاب من الله بكفرهم, فيحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول ولا نذير, كما قال تعالى بعد ذكره إنزال كتابه المبارك وهو القرآن {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين * أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة} وقال تعالى: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} وقال تعالى: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير} الاَية, والاَيات في هذا كثيرة.

** فَلَمّا جَآءَهُمُ الْحَقّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلآ أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَىَ أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَىَ مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنّا بِكُلّ كَافِرُونَ * قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مّنْ عِندِ اللّهِ هُوَ أَهْدَىَ مِنْهُمَآ أَتّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنّمَا يَتّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلّ مِمّنْ اتّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ * وَلَقَدْ وَصّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ
يقول تعالى مخبراً عن القوم الذين لو عذبهم قبل قيام الحجة عليهم, لاحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول أنهم لما جاءهم الحق من عنده على لسان محمد صلى الله عليه وسلم, قالوا على وجه التعنت والعناد والكفر والجهل والإلحاد {لولا أوتي مثل ما أوتي موسى} الاَية, يعنون ـ والله أعلم ـ من الاَيات كثيرة مثل العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وتنقيص الزروع والثمار, مما يضيق على أعداء الله, وكفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى إلى غير ذلك من الاَيات الباهرة, والحجج القاهرة, التي أجراها الله تعالى على يدي موسى عليه السلام حجة وبرهاناً له على فرعون وملئه وبني إسرائيل, ومع هذا كله لم ينجع في فرعون وملئه, بل كفروا بموسى وأخيه هارون, كما قالوا لهما {أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين} وقال تعالى: {فكذبوهما فكانوا من المهلكين} ولهذا قال ههنا: {أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل} أي أو لم يكفر البشر بما أوتي موسى من تلك الاَيات العظيمة {قالوا سحران تظاهر} أي تعاونا {وقالوا إنا بكل كافرون} أي بكل منهما كافرون, ولشدة التلازم والتصاحب والمقاربة بين موسى وهارون, دل ذكر أحدهما على الاَخر, كما قال الشاعر:
فما أدري إذا يممت أرضاًأريد الخير أيهما يليني
أي فما أدري يليني الخير أو الشر. قال مجاهد بن جبر: أمرت اليهود قريشاً أن يقولوا لمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك, فقال الله: {أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا ساحران تظاهر} قال يعني موسى وهارون صلى الله عليهما وسلم {تظاهر} أي تعاونا وتناصرا وصدق كل منهما الاَخر ؟ وبهذا قال سعيد بن جبير وأبو رزين في قوله {ساحران} يعنون موسى وهارون, وهذا قول جيد قوي, والله أعلم. وقال مسلم بن يسار عن ابن عباس {قالوا ساحران تظاهر} قال: يعنون موسى ومحمداً صلى الله عليهما وسلم, وهذه رواية الحسن البصري. وقال الحسن وقتادة: يعني عيسى ومحمداً صلى الله عليهما وسلم, وهذا فيه بعد, لأن عيسى لم يجر له ذكر ههنا, والله أعلم.
وأما من قرأ {سحران تظاهر} فقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس: يعنون التوارة والقرآن, وكذا قال عاصم الجندي والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. قال السدي: يعني صدق كل واحد منهما الاَخر. وقال عكرمة: يعنون التوارة والإنجيل, وهو رواية عن أبي زرعة, واختاره ابن جرير. وقال الضحاك وقتادة: الإنجيل والقرآن, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب, والظاهر على قراءة {سحران} أنهم يعنون التوارة والقرآن, لأنه قال بعده: {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه} وكثيراً ما يقرن الله بين التوارة والقرآن, كما في قوله تعالى: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ـ إلى أن قال ـ وهذا كتاب أنزلناه مبارك} وقال في آخر السورة: {ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن} الاَية, وقال: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون} وقال الجن {إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لمن بين يديه} وقال ورقة بن نوفل: هذا الناموس الذي أنزل على موسى. وقد علم بالضرورة لذوي الألباب أن الله تعالى لم ينزل كتاباً من السماء فيما أنزل من الكتب المتعددة على أنبيائه أكمل ولا أشمل ولا)أفصح ولا أعظم ولا أشرف من الكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم, وهو القرآن, وبعده في الشرف والعظمة الكتاب الذي أنزله على موسى بن عمران عليه السلام, وهو الكتاب الذي قال الله فيه: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء} والإنجيل إنما أنزل متمماً للتوراة, ومحلاً لبعض ما حرم على بني إسرائيل, ولهذا قال تعالى: {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} أي فيما تدافعون به الحق وتعارضون به من الباطل, قال الله تعالى: {فإن لم يستجيبوا لك} أي فإن لم يجيبوك عما قلت لهم, ولم يتبعوا الحق {فاعلم أنما يتبعون أهواءهم} أي بلا دليل ولا حجة {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} أي بغير حجة مأخوذة من كتاب الله {إن الله لا يهدي القوم الظالمين}.
وقوله تعالى: {ولقد وصلنا لهم القول} قال مجاهد: فصلنا لهم القول. وقال السدي: بينا لهم القول. وقال قتادة: يقول تعالى: أخبرهم كيف صنع بمن مضى, وكيف هو صانع {لعلهم يتذكرون} قال مجاهد وغيره {وصلنا لهم} يعني قريشاً, وهذا هو الظاهر, لكن قال حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن رفاعة, رفاعة هذا هو ابن قرظة القرظي, وجعله ابن مندة: رفاعة بن شموال خال صفية بنت حيي وهو الذي طلق تميمة بنت وهب التي تزوجها بعده عبد الرحمن بن الزبير بن باطا, كذا ذكره ابن الأثير ـ قال: نزلت {ولقد وصلنا لهم القول} في عشرة أنا أحدهم, رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديثه.